فرسان نيوز-
بقلم : الدكتور احمد عويدي العبادي
قصة المالكة بلقيس
وقصة الملكة بلقيس ذائعة منذ القدم، وقد تجاوزت شهرتها مسرح أحداثها، وتناقلتها شعوبٌ أخرى، بصيغ مختلفة وروايات متعددة، وتناولتها شروحات التوراة وكتب تفسير القرآن الكريم، ودخلت في قصص الأنبياء ونصوص القديسين المسيحيين، وعُنِيَتْ بتفاصيلها كتبُ الأخبار والتاريخ، واستلهمتها روائع الفنانين الأوروبيين، في عصر النهضة مثل: الإيطالي رافائيل (١٤٨٣ م -١٥٢٠ م)، وريموند (1920-2013)، وجبرتي (1373-1455). واتُخِذَ موضوع القصة أساساً لكتاب الحبشة المعروف (كُبْر أنجست) أي كتاب (مجد الملوك). وأما الشخص الذي أشار اليه القران الكريم (قال الذي عنده علم من الكتاب) الذي نقل عرش بلقيس في اقل من طرفة عين، من سبأ أدوماتو الى القدس في فلسطين، فهو آصف بن برخيا، ابن خالة النبي سليمان ومستشاره الذي أعطي اسم الله الأعظم.
وقد كان لانتشار القصة أثر في تنازع الناس حول الملكة بلقيس رحمها الله، واختلافهم في اسمها وأصلها وموطنها؛ مِمَّا أضفى عليها أخباراً مصطنعةً، وألواناً متعددةً، كادت تَغلِب نواة وجوهر القصة التاريخية الحقيقية، وتحولها إلى حكاية شعبية، تُروى في أزمنة متفاوتة، ومواطن متباعدة. لذا فان أصدق رواية عنها، هي ما جاء في القران الكريم، لان الله هو الأصدق حديثا (ومن اصدق من الله حديثا؟)، على أنَّ أشهر حادثة في حياة تلك الملكة، هي زيارتها للنبي سليمان عليه السلام. وقد نص القران الكريم على هذه الحادثة، وما كان من كلام الهدهد، وكلام بلقيس وكلام سليمان، وإسلامها مع سليمان لله رب العالمين.
وطبقا لما جاء في القرآن الكريم، فان النبي سليمان، بعدما أخبره الهدهد عن وجودها وعظمتها وجمالها، وثروة مملكتها واخلاقها وحشمتها ووقارها وهيبتها، أرسل اليها طائر (الهدهد) نفسه، يدعوها للتوحيد، فأرسلت هدية عظيمة الى (النبي سليمان)، لتجنب خوض حرب ومواجهة معه، ولكنه رفضها وأصر على إرسال جيش نحوها، فأرسلت اليه وفدا، وتعجب رسل (الملكة بلقيس) الذين حملوا الهدية، من حجم مملكة سليمان وجنوده من الإنس والجن والحيوانات والطيور المختلفة. وإزاء ذلك، قررت (الملكة بلقيس) الذهاب بنفسها، إلى مملكته حتى تتوصل معه إلى حل سلمي، قبل تطور الأمور الى الحرب والدمار والاذلال.
وبعد وصولها تفاجأت بأن عرشها كان عنده. وأعد لها (النبي سليمان) مفاجأة أخرى، وكانت قصرا من البلور فوق الماء، وظهر كأنه لجة، فلما قال لها ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض اللجة( الماء ) ، فكشفت عن ساقيها"(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) -سورة النمل، وهي إشارة واضحة الى انها كانت محتشمة في لباسها، وانه كان يغطي سائر جسمها وساقيها الى كعبيها , أي انها كانت ترتدي لباس المرأة الاصيلة الاصلية المحتشمة . فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سر الماء والزجاج، قال: (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) أعلنت (الملكة بلقيس) إيمانها بالله الواحد الاحد سبحانه وتعالى، وآمن معها العديد من أبناء شعبها.
وتباينت آراء المستشرقين حول اسمها. فالمستشرق مونتغمري وَات (1909 – 2006)، والمستشرق اولندروف (1925-1992) يريان (وهما مخطئان) أنّ الاسم مأخوذ من المفردة اليونانية (فالاكيس) التي تعني عشيقة، وأخذا ذلك من لهجة التوراة الكنعانية، حيث ورد الأسم بصيغة (فلجش فلجس). أما المستشرق الفرنسي (دواسي) فيرى أن الاسم تصحيف للاسم (نكوليس)، بينما يرى المستشرق (دورامي) أن الاسم دمج لكلمة (بعلة وكيس)، بينما يرى الباحث (عبد المجيد همو) أن أصل الاسم جاء من (بعل وقيس). وان اسمها مزيج من الأسطورة والخرافة والقصص والتاريخ، وان أصلها جنية وليس من الانس، وتمت حياكة اساطير عديدة لم تكن ولن تكون لأية ملكة في التاريخ.
وتطرق المؤرخون العرب الى القصص المرتبطة بـ (الملكة بلقيس) فهي كثيرة، نأخذ ما ورد عند المؤرخ ابن الاثير (وهو عز الدين أبي الحسن الجزري الموصلي (555-630 هـ) المعروف بـ ابن الأثير الجزري، مؤرخ إسلامي كبير، عاصر دولة صلاح الدين الأيوبي، ورصد أحداثها ويعد كتابه الكامل في التاريخ مرجعا لتلك الفترة من التاريخ الإسلامي)، قوله (الذي لا نطمئن له): أن والد بلقيس مات من غير وصية، فأقام الناس ابن أخ له ملكا وريثا، فتآمرت عليه (الملكة بلقيس) وقتلته وتولت بعده. وقصة اخرى، تروي أنها تولت السلطة بعد وفاة أبيها، ثم تخلت لأخيها عن العرش.
ونحن لا نتفق اطلاقا مع هذه الروايات , التي تتحدث عن الوراثة في العرش والمؤامرات في اعتلائه , علما بان نظام الوراثة للعرش كان مرفوضا في الممالك الاردنية القديمة , وبخاصة زمن الدولة الأدومية , قبل أكثر من ثلاثة الاف عام من الان, , حيث كان الملك لا يصل الى العرش الا من خلال الانتخابات الحرة , وكذلك امراء الأقاليم كل في اقليمه , وأعضاء الملأ , لا يصلون الا من خلال الانتخابات أيضا , لأنهم بذلك , كانوا يجسدون إرادة الشعب ويمثلونه لفترة محدودة , مما كان يجبر الملوك على النزاهة والإخلاص والانتماء , وحب الشعب وخدمته , فان نجحوا بذلك انتخبهم الشعب مرة أخرى , والا غادروا العرش أو الامارة أو المنصب غير مأسوف عليهم , ليحل مكان أي منهم شخص اخر يحظى بثقة الشعب الأردني ويجسد ارادته , ويصبح بأصوات الناخبين صاحب الشرعية والسلطة المجسدة لإرادة الأردنيين .
وما بلقيس الا ملكة اردنية أدومية ثمودية نرى انها وصلت الى العرش عبر الانتخاب والاستحقاق الديموقراطي الحر، وهو منهج الدولة الأدومية الأردنية ومنها مملكة سبأ، حيث كان يتم انتخاب من يجلس على العرش، وكان يتساوى في ذلك الذكر والانثى، وعندما اختارها الشعب وفشل منافسها ابن عمها أمامها في الانتخابات، اغتصب العرش منها، وغلبها عليه، وقرر قتلها، لإزاحتها من أمامه، لأنها تشكل محبوبة الشعب الأدوماتي السبئي الأردني، وعنصر التهديد الشرعي الذي قد يطيح به في أية لحظة. فهربت متخفية، في بيئة حاضنة وحامية لها، ثم احتالت عليه، متظاهرة انها توافق على الزواج منه، وأنها تعترف بشرعيته.
وفي ليلة زفافهما قتلته في مخدعها قبل ان يدخل بها (وكما قالت العرب قديما ان العرش عقيم لا يعرف أبا ولا اخا ولا ابنا ولا زوجا)، وعلقت راسه من شرفة القصر، فهرع الناس لمبايعتها، واستعادت العرش الذي انتخبها الناس له، وصارت كما وصفها القران الكريم وأثنى عليها، ودخلت التاريخ من أوسع ابوابه، بل من أبواب الكرامة الأردنية، التي لم تدخلها امرأة في تاريخ الملكات والاميرات في الدنيا، وهذا فخر لكل أردني وأردنية، منذ ادم وحواء الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ونحن نرى أن أباها الهدهاد بن شراحبيل بن الحارث الرائش، (كما يذكره الهمداني (280-بعد 336هـ))، لم يكن ملكا، وانما كان من أعيان المملكة الأردنية السبئية، وان الملك كان لا يصل الى العرش الا بالانتخابات الشعبية، ويكون قبلها قد تقلد المناصب بالدولة وتدرج بها، وتأهل للعرش، ومنها أن يكون عضوا من الملأ أي من علية القوم ورجال الدولة، حيث كان الشخص لا يصل الى المنصب الا إذا مر بالذي يسبقه من المراتب، ويتدرج فيها مع ما يتعلمه من الخبرات ومعرفة الشعب له وتقييمه عندما يخوض الانتخابات. وبذلك وصل الأردنيون زمن الوثنية الى مستوى وصلت اليه الشعوب الغربية بعد طول عناء، ولكن تقصر عن الوصول اليه الدول والشعوب العربية في عصرنا الحاضر للأسف الشديد.
بلقيس في النقوش الاشورية .
وفي النقوش الآشورية، في بلاد ما بين النهرين، نجد في أحد النقوش المسمارية، ذكرا للإمبراطور (سرجون الثاني) 724 -75 قبل الميلاد، انه تسلم إتاوة من ملكة (أريبي) (أي ملكة العرب / أي ملكة ادو ماتو/ او سبأ /او الجوف / او دومة الجندل الأردنية، وكلها أسماء صحيحة لنفس المسمى من المكان).
ليست هناك تعليقات :