تعريف تقنيات الخراب
واضاف المحاضر: لذلك نبدا بتعريف تقدمه
الرسامة الدكتورة هناء مال الله عن (تقنية الخرابRuins
Technique
) فتكتب: "تشكّل تقنيات الخراب تمريني الفني بما فيها الحرق وتدمير وازالة المادة
الخام ومظهر الاسى الذي تبثه، والتي أصنفها تحت مصطلح (تقنيات الخراب)، هذه التقنيات
تمتلك وجودها كتمثيل لوجه الحرب البشع، ولكن هذا لا يعني اني اقدم فكرة الحرب وانما
استغل جوهر عمليات التدمير للمادة الخام داخل اعمالي لتبليغ (بث) مفهوم الحرب وبغض
النظر عن موقع حدوثها الجغرافي، ومفهومها السياسي"، ونحن استعنا بتعريف هناء مال
الله ليس باعتبارها منتجة لاعمال فنية تنخرط تحت مسمى (تقنية الخراب) وانما باعتبار
هناء مال الله منظرة وكاتبة ومنتجة لخطاب نقدي تنظيري حول تقنية الخراب.
جذور الاستنادات الفكرية:
واعاد الناقد خالد خضير جذور تقنية الخراب الى (التعرية وتقنيات الخراب) فكانت
للرؤية التي تطرحها الرسامة العراقية الدكتورة هناء مال الله الان والتي تعنونها بـ(تقنيات
الخراب ruins technique) جذور غائرة في الاستنادات الفكرية والتقنية لجيل الثمانينات
في الرسم العراقي، وهم رسامون طحنتهم الحروب ونتائجها الكارثية: هناء مال الله وفاخر
محمد وكريم رسن وغسان غائب وحيدر خالد ونديم محسن ونزار يحيى وإيمان علي وهيمت محمد
علي ورحيم ياسر وعلي المندلاوي وسامر أسامة ومحمود العبيدي، وهاشم حنون في بعض مراحل
مسيرته الفنية، وقد تعمق هذا الاتجاه بفعل وجود ورفقة أستاذهم ومنظّـّرهم شاكر حسن
آل سعيد، وقد كانت بذور تقنية الخراب نابعة من، أو مستندة على، طروحات شاكر حسن آل
سعيد في (التعرية الشيئية) وفي (الاثر) وغيرها وهو ما جمع آل سعيد شتاته في ثنائية
اسماها (التعرية - التراكم)؛ فكانت التعرية مفهوما كونيا؛ "حيث كانت الطبيعة تتعرى
بفعل قوى المناخ والقوى الفطرية"، ويذكر كذلك ان الالهة عشتار (عشتروت) تعرضت
للتعرية من قبل كائنات العالم الاسفل وهي في طريقها الى هناك ذلك العالم.
نمطا التعرية عند ال سعيد
واكد المحاضر الصالحي : لقد قسّم شاكر حسن آل سعيد تقنيات التجريد (عبر التعرية)
إلى نمطين متمايزين ومتكاملين هما: تعرية الجدران، وتعرية الأرصفة، ويصنف (التحزيز
والشخبطة) في تعرية الجدران بأنها "ثقافة ساكني المدينة" (آل سعيد، السابق،
ص222) ويفترض بثقافة ساكني المدينة توفر حوار متبادل بين تلك الجدران وساكني المدن؛
بينما يصف تعرية الأرصفة بأنها اكتفاء للعمل الفني بذاته فالعمل الفني ناتج عن ما تضيفه
الصدفة إلى اللوحة من مؤثرات وما تسلبه منها، حيث تنفرد المسطحات المدينية (تقنيات
الأرصفة) بوجودها الغفل ويظل (الأثر) علامة الرصيف التي تصنعها الأقدام الضائعة لعابري
السبيل، وإنها "تحزيز وشخبطة وشقوق ... قوى كونية مكتفية ذاتيا في إعارة الفنان
مقوماته الأسلوبية والتقنية" (آل سعيد، السابق، ص222)، ويعتبر آل سعيد التعرية
"المحور الأول في الكشف عن شيئية الوجود الشيئي والظاهرة الشيئية" (آل سعيد،
السابق، ص221)، كما كان آل سعيد يحاول اكتشاف الطاقات الفاعلة في الوجود الشيئي في
المحيط، تلك القوى التي تتجسد منتقلة من طبيعتها الجينية إلى طبيعة تقنية وهي العناصر
التكوينية الأربعة الانباذوقليسية : الماء، والهواء، والتراب، والنار: فكان الماء عنده
يتجسد تقنيا عند معاملة اللوحة وما عليها من ألوان بالماء بحيث يظهر تأثيره على مستقبل
اللوحة، أو باستخدام السيولة في التقنية اللونية، ويتجسد فعل النار في فعلها الذي يؤدي
إلى نشوء فوهات بواسطة الحروق، والتراب يظهر في إسباغه طبيعته على عجينة الألوان، وأخيرا
يظهر الهواء من خلال الألوان التي تسقط على اللوحة بطريق النفخ...
افتراق هناء مال الله عن ال سعيد
لقد كان آل سعيد مأخوذا بحوار (تقنية الجدران) كانت هناء مال الله مأخوذة بالنمط
الآخر من التقنيات التجريدية، بالحوار الصامت الغفل لساكن المدينة مع الأرصفة و(الأرضيات)،
ففيما يكون "للجدار (حواره) مع السابلة، لا يكون للرصيف حوار إلا مع الأشياء"
(آل سعيد، السابق، ص227) فليست الأرصفة في النهاية، برأيه، إلا مواطئ أقدام، ومكبات
نفايات لا تحاور سوى ذاتها، فكانت "خامتا الاسمنت والقار تلتقط معنى (الأثر)
: اثر الأقدام والمركبات وما إلى ذلك".
تقنيات الخراب.. تخريب المتحف العراقي
تشرح الرسامة الدكتورة هناء مال الله فن الخراب او تقنية الخراب التي تشتغل
عليها الان بقولها:
مرة اصدرت مجلة المورد عددا خاصا عن بغداد، وعندما عملت معرضا شخصيا عن بغداد
عملت بحثا عن المدينة وصورتها، وقد كانت هنالك قصة تقول ان ابا جعفر المنصور حينما
اسس بغداد عمل دوائر قطن محروق، وقد كتبت عن ذلك فترة، قلت ان تلك نبوءة بان المدينة
ستحرق، وكنت ازور المتحف اسبوعيا، وادركت ان ميزوبوتاميا (بلاد مابين النهرين) هي مفهوم
لدورة خراب، انها كانت تتعرض على مدى التاريخ لخراب دوري تدمر وتعيد نفسها وكأنما هي
دورة..
وكانت بوادر ذلك تظهر حينما كنت في العراق وال سعيد كان يشتغل على تقنية الزوال
فكنا نرى المتحف الاركولوجي وكأنما هو معرض فن معاصر اي نتسلم المنحوتات مع خرابها،
وهذه كانت بذرتها، ولكنها اختلفت هنا، فالان بدأت ادرك الخراب الافتعالي بواسطة الحرب.
طرحت مصطلح (تقنية الخراب)، في بحث صغير في جامعة الدراسات الشرقية والافريقية
في لندن ،وقد درست الموضوع باعتباره متعلقا بجيل الثمانينات في الفترة الاولى، بينما
يعني الان عندي قضية مختلفة واوسع من ذلك، فقلت انه منذ 1991 تغير فيها تاريخ الفن
العراقي وتاريخ العراق بشكل كامل بعد حرب الخليج الاولى، وكانت زياراتي للمتحف العراقي
للاثار اثناء الحصار اسبوعية بمساعدة الاستاذ شاكر حسن، قد جعلتنا ننظر الى هذا المتحف
عبر متابعة الاثار باعتبارها اعمالا فنية معاصرة، ويعني ذلك اننا نتسلم سمات وثيمات
الخراب الموجودة عليها، ونحن كنا معزولين فلم نكن نرى الفن خارج العراق، وقد كنا نعمل
كمجموعة صلدة بيننا مثقفون والان اعتقد ان تلك السنوات العشر كانت لها مفهومها المعزول
ولكن النقي عن التاثيرات الخارجية الغربية، قد تكون هذه سمة ايجابية وكذلك سلبية بمعيار
الفن العالمي ان ذاك وتوصلاته.
لقد عانينا في فترة الحصار من شحة
بالمواد الخام الخاصة بالرسم وهو ما ادى الى شحة بالتقنية التي بدت محلية تماما لانها
معزولة عن العالم الخارجي، وهو ما احسسته حين خرجت من العراق فنحن من 1991 الى
2003 عزلونا بطريقة اثرت على الفن التشكيلي بشكل كامل، فالخامات بقيت متخلفة وكانما
تجمدت، فظل التشكيل العراقي وكانه محاولة للبقاء، فكان هنالك تحد في فترة الحصار والمواد
الخام وتحد بالمفهوم، واشعر ان العزلة قد اثرت على التقنيات لكنها لم تؤثر على المفهوم
ولهذا اسميتها (تقنيات الخراب) وهو عندي ناتج مفهوم الخراب الذي كنت اشعر وكأن الغرب
قد اراده هوية لنا، فكانت المهمة بالنسبة لنا كيف نصوغ فنا حضاريا ونرميه بوجه الغرب
ونقول اننا يمكن ان نجيب بواسطة الفن التشكيلي الذي يمكن ان يشكل ردا حضاريا على ذلك،
ولكنني بعد ان هاجرت الى بريطانيا، وقد شعرت وانا في لندن ان الكثير من معالم الخراب
والتدمير الحضاري خلال السنوات العشر التي سبقت هجرتي من العراق، هو موجود ضمن جوهر
مفهوم العولمة، والعولمة فيها الايجابي وفيها السلبي الذي هو مسخ وتدمير للهويات، وعلى
الفنان استثمار النسيج الايجابي للعولمة، فاذا كنت افكر بميزوبوتاميا (وادي الرافدين)
كجغرافية، فانا افكر بها الان كمفهوم لدورة الخراب، واضعها ضمن النسيج العالمي ليس
بسبب هويتي العراقية، بل كوني فردا اختبر الحروب، لذلك انا لا استطيع وصف اعمالي بانها
تجريد فهي ليست كذلك، كما لا يمكن ان اصفها بالتشخيصية، ولكن يمكن وصفها مفاهيميا ومفهوميا
خاصا بنا، فلا يمكن استعارة المفاهيم الغربية لذلك حاولت صياغة مفهومي تقنيات الخراب
(ruins technique)، واقمت معرضين استنادا اليه، وانا الان احاول ان اطور
تقنياتي داخل هذا المفهوم. وبذلك يمكن اعتبار مايقوم به الرسامون العراقيون من رسم
الخراب هو نقل الخراب الذي وقع على المنحوتات واتخاذه تقنية يشتغلون عليها..
تخريب المتحف اخطر ما تعرضت له الثقافة العراقية
تؤكد هناء مال الله ان اخطر ما تعرضت له الثقافة العراقية قبل وأثناء وبعد الاحتلال،
هو تخريب المتحف العراقي الذي يشكل ذاكرة الثقافة العراقية، وبدات تنظر الى تقنيتي
الجدران والأرصفة (الأرضيات) والأفعال التخريبية العابثة ضد المتحف كتجليات للخراب
الثقافي وهو ما دفعها إلى طرحه في مفهوم واحد جامع أسمته (تقنيات الخراب) لتسمي به
فعل الزمن الذي يتصف بأبعاده التخريبية الثقافية ذات الطبيعة البصرية العدائية المقصودة
المؤدية إلى رد فعل عدائي ودفاعي مقابل..
فن الخراب.. من الفناء العراقي إلى الفناء الوجودي
(الحافة الحساسة): الصلابة (الموثوقة)
والتحوّل الى (لا شيء).. وتحوّل التشخيص الى تجريدِ..
لقد ادركت هتاء مال الله ان الرسم قضية بصرية لا تتسع في النهاية الا للبصريات
والماديات التي تخلق البصريات، وهو ما ادركته هناء مال الله باحترافية عالية حينما
حولت فكرة الفناء في اعمالها الى معالجات لمواد صلبة؛ لاعتقادها ان الفناء يضرب الصلب
المحسوس ليخلق إحساسا بفاعليته التدميرية، فكما يحاول الانسان تحويل فعل الزمن الى
سرد او تاريخ ليعطيه ملموسية، فإن هناء مال الله تحاول انتاج العكس حينما تستخلص من
الصلب الذي تآكل بفعل فنائه إلى سرديات ورؤية فلسفية تعبر بها عن إحساسها تجاه التدمير
الذي يطال الإنسان كما يطال المادة الملموسة متجها بها إلى الفناء..
تشكّل هناء مال الله رؤيتها من خلال أعمال تسميها (الحافة الحساسة)، وهي مرحلة
حرجة بين التشخيص والتجريد، وهي اعمال غالبا
ما تكون ثلاثية الابعاد وتريد ان توصل عبرها ان كل شيء صلب وهو هنا محسوب بحكم صلابته
على التشخيص ممكن ان يتحول الى تجريد بقوة الفناء... فهي تقتنص لحظات التحول تلك بين
الوجود الصلب وبين الفناء التجريدي، ان هناء مال الله، وعلى خلاف غيرها من مجايليها،
تعيش تجربتها كرؤية روحية تعالجها من خلال المادة التي تشتغل عليها...
تقول هناء مال الله في حوار لنا معها عبر النت: "ان فكرة مفهوم الخراب
الذي كان جزءا رئيسا من تجربتي الحياتية والفنية في العراق، والذي كنت اقترب منه محليا
كمفهوم لصيق بجغرافية معينة (العراق) ميسوبوتاميا، وكأنه قدر مستدير التعاقب على العراق
ولا يمكن الفرار، او الخلاص منه، بدأت اعيشه كمفهوم عالمي بعد خروجي من العراق، واستقراري
في مدينة عالمية رأسمالية مثل لندن، حيث معاملتنا كأدوات، او بالأحرى وقود لإدامة وضعنا
في خانة هوامش مجتمع العولمة الرأسمالي، واعتقد ان للفن العالمي المعاصر الان وتسويقه
دورا كبيرا في هذه اللعبة العالمية للخراب، واقصد بذلك ان ما ينتج في الفن العالمي
الان ليس الا انعكاسا صادقا لجوهر الخراب الذي نعيشه، والذي تغذيه الرأسمالية وثقافتها
التافهه مثل اميركا. هذا ما يجعلني استشعر حافة الخراب في كل شيء اعيشه حتى وان كان
في لحظات سلام".
حوارات
وعقب السيد محمد مصطفى جمال الدين بأنه ينظر للخراب نظرة جمالية واكثر ايجابية
فتمنى ان ان ندعو الى المحبة والجمال بدل تكريس
هذا الخراب.. ويؤكد احمد جاسم ان الثقافة الغربية فيها جوانب ايجابية .. وتساءل هل
ان الخراب مقتصر بالتعبير المادي ام التعبير النفسي واكد طاهر حبيب انه يعتبر الاسبقية
في قضية تقنيات الخراب لهاشم تايه فهو اسبق لكن هناء مال الله اكثر تقدما بالتقنية
والاخراج الجمالي بالشكل ،وتساءل هل ان اطروحاتها تاخذ جانبا فلسفيا في الفن..
واعتبرت خامة الخراب قضية اساسية في رؤية
قيس عيسى علد الله للموضوع فهي احدى المرتكزات المهمة في اعادة نمذجة
الخراب في مستوياته الاخرى النفسية والدلالية وجوابا على سؤاله هل ان هناء مال الله
حققت نمذجة للخراب برؤية معاصرة قال انها(قدمت مقترحا ليس الا)....
ويرى محمد صالح عبد الرضا حاجة لشرح المصطلحات الواردة في المحاضرة، وتساءل
هل ان تقنية الخراب هي رد فعل للخراب الثقافي الذي تعرضت له الثقافة العراقية وهل كان
خرابا في المادة او في العقول؟
ولا يعتقد صباح السبهان ان الجلسة كانت نقدية، لانها لم تنصب على شرح الاعمال،
فاجاب الصالحي انها ليست نقدا تطبيقا.. انما
هي (نقد على نقد).. او نقد على رؤية مشفوعة بمنجز فني وليست شرحا لاعمال فنية..
ليست هناك تعليقات :